لعل القارئ يستغرب من القصة التي سأذكرها وترويها إحدى الأمهات، تقول لقد أتعبني إبني في صغره بسبب كثرة نقاشه وجداله معي، فهو لا يقتنع بكلامي إلا بعدما يناقشني أكثر من مرة، وإذا سأل سؤالاً، لا يكتفي بالجواب السريع وإنما يدخل في تفاصيل التفاصيل حتى أني كنت أغضب عليه من كثرة نقاشه وجداله، وإذا أراد شيئاً يلح في الطلب ويفاوض ويفاوض حتى يحصل عليه بأي طريقة، وكنت أرى هذه الصفة مزعجة جداً، وما كنت أتوقع في يوم من الأيام أن هذه الصفة المزعجة في صغره تكون سبباً في زيادة ثروته في كبره، حتى أصبح دخله الشهري كبيراً جداً بسبب قوته في الحوار والنقاش وتميزه بالإقناع ونجاحه بالمفاوضات، فزاد دخله بسبب عمله في شركة استثمارية وصار هو أفضل موظف لإقناع العملاء وزيادة أرباح الشركة.
فكثير من الآباء والأمهات ينزعجون من سلوك أبنائهم في صغرهم ولو استثمروا هذا السلوك بطريقة إيجابية لكان خيراً لهم، فالأطفال من عمر سنتين إلى عمر ست سنوات، يحاولون أن يحصلوا على ما يريدون فوراً، ولا يملكون مهارة التفاوض إلا إذا تم تعليمه آداب الحوار والتفاوض ومهارات الإقناع. فلو رفض تناول الطعام وقلت له عليك أن تأكل خمس لقمات ثم تذهب للعب، ففي هذا المثال أنت تدربه على المرونة والتفاوض وحسن الجدال.
أما الأطفال من عمر سبع سنوات إلى عمر إحدى عشر سنة فهم يفهمون معنى التعايش مع الآخرين وأن الحياة فيها أخذ وعطاء، وأنه لكي يأخذ شيئاً لا بد أن يعطي شيئاً مقابله. أما الأطفال من عمر إحدى عشر سنة إلى خمسة عشر سنة ففي الغالب الوالدين يدخلون في صراع مع أبنائهما في هذه المرحلة العمرية إذا لم يستخدم الوالدين التفاوض كأسلوب مع الأبناء. وفي هذه المرحلة تكثر مقاطعة الأبناء لوالديهم أو الابتعاد عنهم لأن الأبناء لديهم شعور بعدم الإستماع لآرائهم والحوار معهم أو مناقشتهم. لهذا يفضل أن يفاوض الوالدين أبناءهم في هذه المرحلة ويسمحا لهم بالمشاركة بوضع القوانين التربوية المنزلية.
فالمفاوضات مع الأبناء يعني التعامل المرن، وهذا الأسلوب له فوائد تربوية كثيرة، منها تضييق مساحة الخلاف بين الآباء والأبناء لأنهم بالتفاوض يصلون إلى حلول مرضية للطرفين، والفائدة الثانية أن الآباء يتعرّفون على احتياجات أبنائهم عندما يتفاوضون معهم. فمثلاً عندما يطلب الإبن الهاتف النقال طول اليوم ونتفاوض معه في الساعات المسموح بها نكون قد عرفنا منه أهمية هذا الهاتف بالنسبة له وتعلقه به، والفائدة الثالثة أن بالتفاوض والمرونة يصل الطرفان الآباء والأبناء لأرضية مشتركة واتفاق بينهما وهذه تقوي العلاقة التربوية، والفائدة الرابعة غرس الثقة بالنفس والتعاطف مع الآخرين، فلا يعيش الأبناء بوهم أن الآباء يكرهونهم أو أنهما ضدهم، كما لا يعيش الآباء بوهم أن الأبناء دائماً يخالفون كلامهم وتوجيهاتهم وأنهم متمردون عليهم.
وربما يستغرب الأباء وهم يقرأون هذا المقال أن الطفل أكثر ما يفرحه ويسعده (التفاوض)، لأن التفاوض يشعره بقيمته وأن رأيه يسمع ويحترم ويستجاب لبعض مطالبه فيكون سعيداً ومتعلقاً بالوالدين أكثر، كما أن الآباء صنفين في هذا الأمر، الصنف الأول الآباء المتسلطون والثاني الآباء الذين يطلقون الحرية لأبنائهم فيفعلون ما يريدون. فلا الصنف الأول ولا الثاني يعلم الطفل التفاوض والمرونة، بل بالعكس التسلط يعلمه التمرد وإعطاء الحرية الكاملة يعلمه الغرور والتكبر وتضخيم الذات، ولهذا حتى ينجح تفاوضك مع إبنك، لا تتفاوض معه وأنت غاضب أو مستعجل وإنما اختر المكان والزمان المناسبين للتفاوض.
د. جاسم المطوّع